سورة الشورى - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)}
يقول تعالى لهذه الأمة: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}، فذكر أول الرسل بعد آدم وهو نوح، عليه السلام وآخرهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم وهم: إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم، عليهم السلام. وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة كما اشتملت آية الأحزاب عليهم في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} الآية [الأحزاب: 7]. والدين الذي جاءت به الرسل كلهم هو: عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 25]. وفي الحديث: «نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد» أي: القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم، كقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]؛ ولهذا قال هاهنا: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} أي: وصى الله سبحانه وتعالى جميع الأنبياء، عليهم السلام، بالائتلاف والجماعة، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف.
وقوله: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} أي: شق عليهم وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد.
ثم قال: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} أي: هو الذي يُقدّر الهداية لمن يستحقها، ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد؛ ولهذا قال: {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} أي: إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم، وقيام الحجة عليهم، وما حملهم على ذلك إلا البغيُ والعنادُ والمشاقة.
ثم قال الله تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي: لولا الكلمة السابقة من الله بإنظار العباد بإقامة حسابهم إلى يوم المعاد، لعجل لهم العقوبة في الدنيا سريعًا.
وقوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} يعني: الجيل المتأخر بعد القرن الأول المكذّب للحق {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أي: ليسوا على يقين من أمرهم، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا بُرهان، وهم في حيرة من أمرهم، وشك مريب، وشقاق بعيد.


{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)}
اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات، كل منها منفصلة عن التي قبلها، لها حكم برأسه- قالوا: ولا نظير لها سوى آية الكرسي، فإنها أيضا عشرة فصول كهذه.
قوله {فَلِذَلِكَ فَادْعُ} أي: فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك أصحاب الشرائع الكبار المتبعة كأولي العزم وغيرهم، فادعُ الناس إليه.
وقوله: {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أي: واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله، كما أمركم الله عز وجل.
وقوله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} يعني: المشركين فيما اختلقوه، وكذبوه وافتروه من عبادة الأوثان.
وقوله: {وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} أي: صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء لا نفرق بين أحد منهم.
وقوله: {وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي: في الحكم كما أمرني الله.
وقوله: {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي: هو المعبود، لا إله غيره، فنحن نقر بذلك اختيارا، وأنتم وإن لم تفعلوه اختيارا، فله يسجد من في العالمين طوعا وإختيارا.
وقوله: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي: نحن برآء منكم، كما قال تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41].
وقوله: {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} قال مجاهد: أي لا خصومة. قال السدي: وذلك قبل نزول آية السيف. وهذا مُتَّجَهٌ لأن هذه الآية مكية، وآية السيف بعد الهجرة.
وقوله: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} أي: يوم القيامة، كقوله: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [سبأ: 26].
وقوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي: المرجع والمآب يوم الحساب.


{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18)}
يقول تعالى- متوعدا الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به-: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} أي: يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله، ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى، {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي: باطلة عند الله، {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ} أي: منه، {وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي: يوم القيامة.
قال ابن عباس، ومجاهد: جادلوا المؤمنين بعد ما استجابوا لله ولرسوله، ليصدوهم عن الهدى، وطمعوا أن تعود الجاهلية.
وقال قتادة: هم اليهود والنصارى، قالوا لهم: ديننا خير من دينكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن خير منكم، وأولى بالله منكم. وقد كذبوا في ذلك.
ثم قال: {اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} يعني: الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه {والميزان}، وهو: العدل والإنصاف، قاله مجاهد، وقتادة. وهذه كقوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] وقوله: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7- 9].
وقوله: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} فيه ترغيب فيها، وترهيب منها، وتزهيد في الدنيا.
وقوله: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} أي: يقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [سبأ: 29]، وإنما يقولون ذلك تكذيبا واستبعادا، وكفرا وعنادا، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أي: خائفون وجلون من وقوعها {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} أي: كائنة لا محالة، فهم مستعدون لها عاملون من أجلها.
وقد رُوي من طرق تبلغ درجة التواتر، في الصحاح والحسان، والسنن والمسانيد، وفي بعض ألفاظه؛ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جَهْوَرِيّ، وهو في بعض أسفاره فناداه فقال: يا محمد. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحوا من صوته: «هاؤم». فقال: متى الساعة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ويحك، إنها كائنة، فما أعددت لها؟» فقال: حُب الله ورسوله. فقال: «أنت مع من أحببت».
فقوله في الحديث: «المرء مع من أحب»، هذا متواتر لا محالة، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة، بل أمره بالاستعداد لها.
وقوله: {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ} أي: يحاجّون في وجودها ويدفعون وقوعها، {لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي: في جهل بين؛ لأن الذي خلق السموات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى، كما قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6